الخميس، 17 سبتمبر 2009

حِل السواقي .. رحلة إلى الريف المصري مع صوت محمد قنديل

موضوعٌ واحد دارت حوله معظم الأغنيات هو الحب ، من لقاء و هجر و فراق و وصال .. و شوق و لوعة .. و حنين و حرقة .. إلى آخره و لم ينتهي بعد صناع الأغنيات من شعراء و ملحنين و مطربين من الدوران في فلك هذا الموضوع !
قديماً .. كان الخروج عنه شيئاً معتاداً خلال الأغنيات الوطنية و الدينية و الوصفية و بعض أغاني الأفلام و الصور الغنائية .. لكن مع انحسار دور الإذاعة ، و تحوّل الغناء إلى تجارة بدأت موضوعات في الاختفاء تماماً !
المطرب محمد قنديل .. من أهم مميزات فنه هذا التنوع البديع في الألوان الغنائية و الموضوعات التي غنى فيها .. فكانت اختياراته لا تقل جمالاً و لا قوة عن صوته .. من غناءٍ وصفي و ديني و شعبي و عاطفي و اجتماعي و أغاني للعمل ....
" حل السواقي " تنتمي لأغنيات العمل التي تغنى بها ، كتب كلماتها الشاعر علي سليمان .. و لحنها الملحن القدير عبد العظيم عبد الحق .. و شدى بها محمد قنديل  ..



حــــــــل الســـــواقي القبلية
دلوقتــــي ســــــاعة عشوية
الغيــط صلاة الزين يضوي
و القلـــــــب بيشوفه بيفرح
آدي التقـــــاوي و ح نروي
و بكــــرة يخضر و يطرح
و الشــدة بكرة يا عم تهون
و الـرزق عند الله مضمون
جـــه المسا يلا شوية
دلوقتي ساعة عشوية
حل السواقي
**

آدي واجب الأرض اتقضى
ناقصنــا إيه غيـــر الطاعة
م التـــرعـــة يــــلا نتوضى
و تعــالوا ح نصلي جماعة
فتـَّح قليبك ، بـص و شوف
يا بخت من يرزع معروف
جـه المســا يلا شوية
دلوقتي ساعة عشوية
حل السواقي
**

غنــي على المزمــار غني
و قــــول يــا ليلي برواقــة
دي ســـاعـــة الحـــظ تهني
م الدنيـا مش واخدين حاجة
القـَشيـة معدن و الحال عال
مش طمعانين م الدنيـا بمال
جــه المســا يلا شوية
دلوقتي ساعـة عشوية


فيها يسافر بنا صوت محمد قنديل إلى قرية مصرية ، يصطحبنا مع الفلاحين البسطاء لنقضي معهم يوماً بين الشجر و قنوات الماء ، نستنشق فيها هواء نقياً
تبدأ الأغنية بنغمات من الوتريات " الكمنجات " ، عند نهايتها يبدأ الإيقاع
حركة الكمنجات المتوترة توحي بالترقب للحظة انتهاء العمل الشاق و ظهور الإيقاع بكل ما فيه من بهجة قد أعلن عن بداية وقت الراحة .. مع حركات رشيقة من الوتريات  ( القانون ) ، و يظهر من بعيد عزف الناي يعطي الإحساس بجو الريف .. يزيده تأكيداً اختلاط الإيقاع و الأنغام بصوت خوار البقر
فمنذ اللحظات الأولى تدرك أنك تستمع لأغنية ريفية .. و هذه مهارة ملحن استطاع أن يضعك في جو الأغنية مع ثوانيها الأولى
فللحق هذه الأغنية بطلها الأول هو الملحن ( عبد العظيم عبد الحق )... ببراعة ملحن متمكن من أدواته وظّف الكلمات و صوت المطرب و الكورال خير توظيف ، وِفق خطة رسمها جيداً
نعود للأغنية عند الثانية 18
لازمة موسيقية .. هي تقريباً نفس الجملة التي سيغنيها الكورال " حل السواقي القبلية .. دلوقتي ساعة عشوية "
و نلاحظ هنا التنويع بين أداء الكورس الرجالي و النسائي ..
الرجال : حل السواقي القبلية
و يرد النساء : دلوقتي ساعة عشوية
و يرد الرجال ( من طبقة مغايرة ) : دلوقتي ساعة عشوية ..
و يستمر تكرار هذه الجملة .. مع عزف لآلة الناي يوحي بغروب الشمس
هنا يُنتظر ظهور المطرب لكن يفاجئنا الملحن بلزمة موسيقية أخرى
و يفاجئنا ثانيةً باستمرار غناء الكورال !
النساء : الغيط صلاة الزين .. صلاة الزين يضوي ، و القلب بيشوفه بيفرح
الرجال ( بلحن مختلف ) : القلب بيشوفه بيفرح
هنا وصف لشكل الغيط .. وصف للمكان .. فالأغنية تسير بتدرج .. و الكلمات أشبه بسيناريو .. اهتم بالزمان و المكان و الحدث ..
بعد ما يقرب من دقيقتين يبدأ قنديل في الغناء .. في أغنية مدتها تصل للسبع دقائق ..
فلماذا زادت مساحة الكورال بهذا الشكل و الملحن مع مطرب بإمكانيات قنديل ؟
أعتقد أن عبد العظيم عبد الحق كان محقاً و موفقاً في ذلك .. لأن العمل في الريف يستلزم وجود عدد كبير من العاملين و الفلاحين ..
و هم في وقت راحتهم يلجأون للغناء و يتشاركون فيه جميعاً ، و أغاني الأفراح في تراثنا نجد فيها مساحة كبيرة للغناء الجماعي .. فتجد المؤدي يقول جملة و يرد عليه الكورس أو يشاركه المدعوون في الفرح بكلمة أو بنفس الجملة بلحن مختلف مثلما :
و صلي صلي ... صلي
ع النبي صلي ... صلي
و هكذا ...
و هناك بعد آخر .. فالعمل في الأرض – وقت عدم الاعتماد على الآلة – كان يعتمد بشكل أساسي على الأيدي العاملة .. و كلٌ يعمل في مهمة محددة .. فكانت الحياة مشاركة بين الجميع .. في العمل و في أوقات الفرح و المرح
و عبد العظيم عبد الحق يتميز بتوظيفه للكورال .. و قد يرجع هذا لسبب أنه كان ضمن كورال الشيخ محمود صبح لمدة أربع سنوات و مع الشيخ زكريا أحمد .
آدي التقـــاوي و ح نـــروي
و بكــرة يخضــر و يطـرح
و الشدة بكرة يا عـم تهـــون
يغنيها قنديل كأنه واحد من الفلاحين .. لا واحد يعبر عنهم فقط .. فإتقانه للهجة أهل الريف و حسه الشعبي ساعداه في تقمص الحالة و سهولة التصديق من المتلقي ..
و قنديل حتى في أعماله السينمائية .. ظهر في دور المراكبي و الصياد و العامل ... الذي يعمل و في وقت الراحة يغني لزملائه و يروّح عنهم بغنائه ..
فيغني للعمال و البسطاء .. و للطبيعة ... و الحياة
هذا هو قنديل .. و هذا هو منهجه ... فلم يقتصر الغناء عنده في موضوع واحد .. بل كان المجال عنده يتسع لأن يغني لكل شئ
بعد أن يغني قنديل " الشدة بكرة يا عم تهون "
يرد عليه الكورال : و الرزق عند الله مضمون
نطق قنديل لحرف العين في " يا عم " .. يدهشني و ينعشني !
غناء الكورال في " الرزق عند الله مضمون " بصوت منخفض أعتقد أن سببه هو أن المعتقدات مثل الإيمان بالقدر و القسمة و النصيب و الرزق .. كلها تكمن داخل النفس و متأصلة في المجتمع .. و لا يحتاج التصريح لها لصوت عالٍ .. فيكفي الهمس لمجرد التذكرة .. هذا ما أظنه !
قنديل : جه المسا يلا شوية .. دلوقتي ساعة عشوية
يدعوهم إلى الراحة .....
و يرد عليه الكورال : دلوقتي ساعة عشوية
فيردد قنديل : حل .. حل .. حل .. حل السواقي
لاحظ التصاعد في الجملة الموسيقية .. فكل " حل " أعلى عن سابقتها
فهو ينادي على مجموعة كبيرة من الناس .. فهناك من هو بعيد و قد لا يسمع الأولى فيسمع الثانية أو الثالثة !
يعاود الكورال تكرار مطلع الأغنية كما هو ..
ثم لازمة موسيقية رائعة .. و الكوبليه القادم هو الأجمل بالنسبة لي في الأغنية
و يغني قنديل : آدي واجب الأرض اتقضى.. اتقضى .. ناقصنا إيه ؟
فيرد الكورال الرجالي : ناقصنا إيه غير الطاعة
و يرد الكورال النسائي: ناقصنا إيه
هذا التنوع في الأداء يثير الذهن
قنديل : م الترعة يلا نتوضا .. و تعالوا تعالوا تعالوا .. تعالوا ح نصلي جماعة
الجملة اللحنية لـ " م الترعة يلا نتوضا " أرى فيها تموج الماء في الترع !
و تلك الدرامية العالية عند الملحن عبد العظيم عبد الحق ليست غريبة و لا جديدة عليه .. فأكثر ما يميزه هو احساسه بكل كلمة
فبالبحث في أحاديثه الإذاعية عرفت أنه لم يكن يلحن من ورقة ، بل كان يحفظ الكلمات و يهضمها ثم يبدأ في التلحين ..
و عبد العظيم عبد الحق بدأ ملحناً بسبب كلمتين في القرآن الكريم " السماوات و الأرض " ! .. حيث أرشده شيخه الذي علمه في طفولته – الشيخ الكرداني – أن يصعد في تلاوته لكلمة " السماوات " و يخفض في " الأرض "
فاللحن عنده ليس مجرد نغمات جميلة .. و لكن صيغة تعبيرية و تصويرية للكلمات بكل مدلولاتها .
قنديل : تعالوا .. تعالوا .. تعالوا
هناك تردج تصاعدي في أداء قنديل ... فهو ينادي ليجمع الناس لأداء الصلاة " تعالوا ح نصلي جماعة "
فبعد أن ارتاحوا و أكلوا .. و أعطوا لجسدهم حقه .. أدوا فرض الله
قنديل : فتـَّح قليبك بص و شوف .. يا بخت من يزرع معروف
و بعد الصلاة موعظة .. مستوحاة من البيئة ، و لا تحتاج سوى النظر خصوصاً مع صفاء النفس بعد تأدية الفرض .
فمن يزرع يحصد .. و الحصاد يكون مما زرعت .. إن خيراً فخير و إن شراً فشر
و يتبعه الكورال : يا بخت من يزرع معروف ... للتأكيد على المعنى
و حل السواقي ....
لازمة موسيقية .. ثم كوبليه يمكن أن نضع " الرضا " عنواناً له ..
فها هم يغنون سعداء .. راضين بما لديهم ..
" غني على المزماز غني و قول يا ليلي برواقة " يؤديها الكورال النسائي ..
و يرد قنديل ( بسلطنة ) : يا ليلي يا ليلي يا ليل
و يرد عليهم في الثانية بـ : دي ساعة الحظ تنهي ..
الكورال الرجالي : م الدنيا مش واخدين حاجة
قنديل : القشية معدن و الحال عال
( لاحظ نطق قنديل لحرف " ح " في " الحال " ) !
الرجال : مش طمعانين م الدنيا بمال
النساء : مش طمعانين
الرجال : مش طمعانين
تكرار " مش طمعانين " للتأكيد على المعنى .. فهم لا يطمحون لما هو أكثر مما في أيديهم .. و لِم لا ، و قد حِيزت لهم الدنيا كما في الحديث الشريف " من بات آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها " صدق رسول الله – صلى الله عليه و سلم
القشية معدن و الحال عال !
بحثت عن معنى هذا المصطلح " القشية معدن " فوجدت أن :
" القشية " هو التراب الناتج عن حرق القش .. و قد تحوّل إلى معدن ... أي أن التراب عديم القيمة قد أصبح معدن .. أي نقود .. و هو تعبير يدل على يسر الحال و رغد العيش ..
و الفلاحون قديماً كانت حياتهم بسيطة .. و متطلباتهم محدودة .. لذلك كان الطريق للسعادة و الرضا سهلاً .. على عكس الحياة المعقدة التي نحياها الآن بما فيها من متطلبات و تطلعات تزيد من أعباء الناس .
و تستمر الأغنية .. حل السواقي القبلية دلوقتي ساعة عشوية
و يستمر تكرارها مع خفوت الصوت رويداً وريداً .. إلى لحظة النهاية لكن يظل منها صوراً للريف - بشجره و بقره و سواقيه ، و ناسه و أهله - عالقة بالذهن ، فشكراً لصناع الأغنية على تلك الرحلة الجميلة .

هناك تعليقان (2):

  1. الله.. الله يا محمد على الرحلة الجميلة..

    الأغنية بتحليلك لها طعم أجمل بكتير، وانتا بتظهر كل جماليتها بشكل رائع..

    كل لحظة وانتا طيب،،

    3 سلامات

    ردحذف
  2. شكراً يا ذوق يا ذواقة ..
    و انا كل اللي عملته إني وصفت الأغنية زي ما بسمعها ، أما التحليل فله ناسه :)
    أسعدتني بمرورك ،
    و كل لحظة و انت بألف خير
    سلام

    ردحذف